فوائد وأضرار غير متوقعة لـ "السجال اللفظي" مع الآخرين

بدا المشهد غريبا بعض الشيء؛ ففيه ظهرت ثلاث دجاجات تتراقص في صف واحد، تحملها ست أيادٍ مكسوة بقفازات بيضاء اللون في الهواء، لتتمايل هذه الطيور ذات اليمين وذات الشِمال على إيقاع أغنية "رأسا على عقب" لديانا روس. اللافت أن رؤوس الدجاجات ظلت مستقرة تماما رغم اهتزاز أجسادها، وكأنها مُثبتة بواسطة قوة ما خفية.

لم يكن ما سبق حلما راودني وإنما جزءا من حملة إعلانية، انتشرت قبل سنوات كالنار في الهشيم، وأطلقتها شركة "مرسيدس بنز" لتصنيع السيارات الفارهة، بهدف الترويج لمنظومة "القيادة الذكية" التي دُشِنَت عام 2013. وسعت الشركة من وراء ذلك لأن تؤكد لزبائنها المحتملين، أن سياراتها تحظى بـ "هذه القدرة السحرية على السيطرة على بدنها" مستقرا، تماما كما ظلت رؤوس الدجاجات ثابتة ومستقرة في كل الأوقات، خلال الإعلان الترويجي.

لكن شركة "جاغوار" - التي تشكل أحد المنافسين اللدودين لـ "مرسيدس" - اعتبرت الإعلان استفزازا لها. وبعد بضعة أشهر، أطلقت ردها عليه في صورة إعلان آخر، تظهر فيه كذلك دجاجة راقصة؛ يحرك جسمها رجل يرتدي قفازات بيضاء أيضا، مع إبقاء رأسها ثابتا. وخلال الإعلان وبينما يقول هذا الشخص: "أنظروا، إنها تماما مثل مرسيدس"، يختفي الطائر المسكين من على الشاشة فجأة ويتطاير ريشه، مع ظهور نمر مرقط - يُعرف بالإنجليزية باسم جاغوار وهو اسم الشركة - وقد التهم الدجاجة على ما يبدو. ويُكتب على الشاشة سؤال يقول: "هل تفضلون القدرة السحرية على السيطرة على الجسد؟ من جانبنا، نفضل ردود الفعل الشبيهة بتلك التي تصدر عن عائلة القطط، التي ينتمي لها النمر المرقط.

ما سبق ليس إلا نموذجا يدل على مباهاة المؤسسة بالمزايا التي تتحلى بها وتقليلها في الوقت نفسه من شأن منافسيها. ورغم أن هذا الأسلوب يرتبط عادة بمجال الرياضة؛ فإن هناك الكثير من الأمثلة المثيرة له، في مجالات أخرى تبدأ من التسويق وتصل إلى السياسة مرورا بالقانون.

وحتى الملوك القدامى ساروا على هذا الدرب. ومن بين النماذج الشهيرة لذلك، الملك فيليب الثاني المقدوني الذي أرسل لأعدائه رسالة، تفاخر فيها بأنه سيدمرهم عن بكرة أبيهم على نحو يمنعهم من رفع رؤوسهم ثانية من جديد، إذا غزا أراضيهم، وبأنه - وهذا هو المهم - عازم على ركلهم على مؤخراتهم. فأتاه الرد من قادة الأعداء في صورة كلمة واحدة وهي "إذا".

وبرغم أنه قد يصعب عليك تخيل أن زملاء لك يتهكمون عليك بشكل لاذع، ويقولون - مثلا - إن أصيص النباتات الخاص بهم قد يؤدي بعض المهام على نحو أفضل منك، فإن هذا النوع من ثرثرة المكاتب، ربما يكون في واقع الأمر أمرا عاديا ولو بشكل نسبي.

فثمة أدلة ظهرت حديثا، تشير إلى أن هذا الضرب من السجالات الكلامية يزحف إلى أماكن العمل، وأنه منتشر بقدر أكبر بكثير مما يمكن أن تتوقع. ففي العام الماضي، قرر جيريمي ييب، خبير الإدارة في جامعة جورج تاون الأمريكية، - برفقة باحثين من جامعة بنسلفانيا - إجراء دراسة لتحديد مدى انتشار هذا النوع من التراشق الكلامي بين العاملين في الشركات المُدرجة على ما يُعرف بقائمة "فورتشن 500"، التي تعدها مجلة "فورتشن" لأعلى 500 شركة مساهمة في الولايات المتحدة. وفي إطار الدراسة، سأل الباحثون 143 شخصا عن تجاربهم في هذا الشأن؛ ليتبين أن بوسع 61 في المئة من هؤلاء تذكر حدوث نماذج لمثل هذه المواقف خلال الشهور الثلاثة السابقة على إجراء البحث.

وبدت النتائج صادمة في نظر ييب، مما أثار تساؤلا حول كيف يمكن أن يؤثر استخدام طريقة حديث مثل هذه على من يتعرضون لها، وما إذا كان يتوجب علينا جميعا شحذ مهاراتنا للسخرية من الآخرين والتقليل من شأنهم أم لا؟

دعونا أولا نحدد تعريف هذا الأسلوب في الحديث، الذي يُطلق عليه بالإنجليزية اسم `Trash Talk`. التعريف الذي قدمه الباحثون في هذا الصدد، يقول إنه يتمثل في "تلفظ المرء بتعليقات متفاخرة حول نفسه أو تفوهه بمفردات مهينة بشأن خصمه أو منافسه". وقد شهد عام 1999 المثال المفضل الذي يحلو لـ "ييب" الاستعانة به للإشارة إلى النصف الثاني من هذا التعريف، وهي واقعة جرت في غمار استعدادات لندن للاحتفال باستقبال الألفية الجديدة.

فقد تضمنت هذه التحضيرات إقامة عجلة دوارة عملاقة، تُعرف الآن بـ "عين لندن"، وتشكل أحد المعالم الشهيرة في الوقت الحاضر للمدينة. وقد كان المشروع يتم برعاية شركة الخطوط الجوية البريطانية، لكن تبين في مراحله النهائية أنه لن يكون جاهزا في الموعد، ما أثلج صدر الملياردير ريتشارد برانسون، مؤسس شركة "فيرجين أتلانتيك" المنافسة، ما حدا به لترتيب عملية تحليق لمنطاد فوق "عين لندن" - غير المكتملة في ذلك الوقت - وعليه لافتة كُتِبَ عليها بسخرية "الخطوط الجوية البريطانية لم تستطع رفع العجلة عاليا".

وللتعرف على ما إذا كان لجوء المرء إلى مثل هذا الأسلوب مفيدا له أم لا؛ اختار ييب ورفاقه 178 طالبا وقسموهم لمجموعتين، طُلِبَ منهما ممارسة لعبة على الإنترنت ضد بعضهم بعضا. وزُوِدَت إحدى المجموعتين مسبقا ببعض العبارات ذات الطابع المحايد لكي يستخدمها أفرادها في السجال مع أفراد المجموعة الأخرى، الذين تم تزويدهم بعبارات لاذعة ساخرة مُتهكمة من قبيل "أيها الدُمى" و"ستخسرون" و"قصتكم انتهت".

المفاجئ أن من تعرضوا لهذا الوابل من العبارات الحافلة بالسخرية والإهانة، أبلوا بشكل أفضل ممن وجهوها إليهم. وعلّق ييب على ذلك بالقول: "هذا أمر مثير للاهتمام، فقد اكتشفنا أن تعرض المرء لهذا الأسلوب يحفزه بشكل أكبر للتفوق على خصمه، وذلك رغم أننا نميل لاعتبار اللجوء لهذا الضرب من الحديث وسيلة لتخويف المُخاطَب" وجعله يؤدي بشكل أقل من المعتاد.

ويشير الرجل في دراسته إلى أن مكان العمل يشكل بقعة تحتدم فيها المنافسة. وتشكل مباهاة المرء بمميزاته وتقليله من شأن زملائه أو منافسيه فيها إحدى الوسائل التي يلجأ لها للتفوق على هذا الصعيد، لكنها وسيلة محفوفة بالمخاطر في الوقت نفسه.

فذلك يؤدي - حسبما يقول ييب - إلى "إحداث حالة من الصراع، وبشكل فوري"، وهي حالة مختلفة تماما عن المنافسة المعتادة، التي ربما تكون موجودة من الأصل بينك وبين زملائك. ففي حالة الصراع، سيصبح هؤلاء الزملاء عاقدي العزم على رؤيتك وأنت تخسر.

ومن بين التَبِعات السلبية الأخرى للجوء إلى هذا الأسلوب، أنه يقود من يتعرضون له لاتباع أساليب أكثر قذارة. فقد أظهرت دراسة لاحقة أجراها ييب وزملاؤه، أن من كانوا ضحية للسخرية والعبارات اللاذعة في الدراسة الأولى، أصبحوا أكثر ميلا فيما بعد، لانتهاز أي فرصة سانحة للغش، وذلك بشكل أكبر من منافسيهم.

Comments